ـ1ـ
غُرْبَتي..
صارَتْ كَطَعمِ الْمَوْتِ صَعْبَه
أَوْجَعَتْها زَفْرَةُ الرّيحِ،
وَأنَّاتُ اليَنابيعِ،
وَآهاتُ الْحَصى والرَّمْلِ والتُّرْبَه
وَدُموعُ ذلكَ الطِّفْلِ
الَّذي أَضاعَ بِالزَّحْمَةِ رَبَّهْ
فاسْتَغاثَ كالشُّعاعِ التَّائِهِ
الْمَطْرودِ مِنْ شَمْسِ المَحَبَّهْ..
أينَ أَهْلُ الْخَيْرِ يا أمَّاهُ ـ قولي ـ
أَيْنَ جيراني الأَحِبَّهْ؟!
أيْنَ يسوعي الصَّغيرُ..؟!
فَإنَّنِي قَدْ ذُقْتُ صَلْبَهْ..
أَيْنَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ..؟!
أَيْنَ الْحُسَيْنُ وَالْحَسَنْ؟!
أَيْنَ الصَّحابَهْ..؟!
قَدْ هَجَرْتُ الدَّارَ مِثْلَكَ يا رَسولي
وَلَمْ أجِدْ تِلْكَ الْمَدينَهْ..
غَيَّروها..
غَيَّروا الأَسْماءَ في أَرضي الْحَزينَهْ
فَأُزيلَتْ "يَثْرِبُ"..
لِتَحُلَّ في الأَرْجاءِ "غُرْبَهْ"
كُلُّ الْمَدائِنِ في بِلادي
تَوَحَّدَتْ بِحُروفِ "غُرْبَهْ"
.. وَأَنينِ "غُرْبَهْ".
ـ2ـ
قَسَّموها،
قَسَّموا أَرْضي مَزارِعْ
مَلأُوها..
بِالخَفافيشِ وَأَصْنافِ الضَّفادِعْ
شَوَّهوا الإِنْسانَ فِيها
غَيَّروا لَوْنَ بَنِيها
جَعَلوها، بَعْدَ عَلْيَاءٍ، سَفيهَه
تَحمِلُ وَشْمَ العَمالَهْ
وَتَبيعُ الغِشَّ في سوقِ الأَصَالَهْ
وَتُضاجِعُ، لا تُبالي، كُلَّ مِنْ يَرْغَبُ فيها.
ـ3ـ
قَسَّموها..
قَسَّموا أَرْضي الَّتي تَخْتالُ تِيهَا
مَمْلَكاتٍ، رَثَّةَ الفِكرِ،
كَريهَه
صادَروا الأقلامَ مِنْها
مَنَعوا الأَوراقَ عَنْها
قَتَّلوا كُتَّابَها الأحرارَ ثُمَّ أخرَسوها
وأغاظتْهُمْ بِبُنيانٍ يُضاهي الْكَوْنَ عُمْراناً
فَصَبُّوا فَوقَها زيتَ الضَّلالِ وأَحْرَقوها..
.. فَاهْتَزَّ قلبُ الرَّبِّ من هَوْلِ الْجَريمَه
وَيْحَكُمْ ـ صاحَ ـ فَهذي أمُّكُمْ لا تَقْتُلوها
فَأَجابوهُ "بِأَخْلاقٍ عَظيمَه":
ـ لا تَخَفْ مَهْما قَسَوْنا
نحنُ، بعدُ، ما نَسَيْنا
أنَّنا، يا خالِقَ الدُّنيا.. بَنُوها!!!
ـ4ـ
قَدْ تَساءَلْتُ مَلِياً:
أينَ إخواني العَرَبْ؟!
أينَ الَّذينَ شارَكوني المَنَّ والسَّلوى
بِلَيْلاتِ الطَّرَبْ؟!
أينَ الَّذينَ غامَروا..
وقامَروا..
وساهَروا الإفْرَنجَ في "العِلَبْ"؟
أينَ الَّذينَ هَجَّروا الأقلامَ
ثُمَّ أحرَقوا الأدَبْ؟!
تَمَزَّقَتْ أرضي ولَمْ يدرِ بِمَوتاها العَرَبْ!!
ـ5ـ
تَرَكوكِ ـ كلُّهُمْ ـ أسيرَةَ العذابْ
طريدَةً بَريئَةً تَنهَشُها الذِّئابْ
ودَفنوا رُؤوسَهمْ بِالرَّملِ والتُّرابْ
لأنَّهُمْ أَعْداءُ كُلِّ زهرةٍ تَفَتَّحَتْ بِآبْ
وَكُلِّ عُصفورٍ شَدا للصُّبحِ وَالْغِيابْ
أَوْ بَلَّلَ جِنْحَيْهِ مِنْ تَبَخُّرِ الضَّبابْ
لأنَّهُمْ لَمْ يَفهَموكِ جَيِّداً يا أحرُفَ الكِتابْ
ظَنُّوكِ لَحْماً فاسِداً يُباعُ للكِلابْ...
ـ6ـ
إيهِ يا أرضَ بلادي
كَمْ تحمَّلْتُ الشَّقاءَ في مَتاهاتِ بُعادي..
كَمْ عَجَنتُكِ، والطَّحينُ صَبابَتي، خُبزاً
يَحِنُّ إلَيْهِ زادي..
ثُمَّ سَكَبْتُكِ في فَمي أُنشودَةً
مشهورةَ التَّلحينِ والإنشادِ
جَمَّعْتُ أَمْجادَ الخَليقَةِ كُلَّها
فَتَبَعْثَرَتْ مِن ريحِ أمْجادي
وَزَرَعْتُكِ ، مثلَ النُّجومِ ، عَلَى يَدي
كَيْ يَهتَدِيْ بِشُعاعِكِ أَوْلادي.
ـ7ـ
إيهِ يا أرضَ بلادي..
يا عَذاباتي الأَلِيمَه
يا صُراخاً شقَّ صدرَ الليلِ أثناءَ الْجَريمَه
يا ابْتِهالاً جَرَّحَ الحُلْمَ المُغَبَّرَ
فَوقَ أحداقٍ يَتيمَه
يا عُيوناً نائحَهْ
وعُقولاً سابِحَهْ
في فَضاءِ اليَأْسِ وَاللُّغَةِ العَقيمَه.
خَلِّصيني يا بلادي مِنْ تَفاهاتٍ سَقيمَه
مِنْ لُواطِ الزُّعماءِ
الغارقينَ في الدَّساتيرِ القديمَه
وسُحاقِ النِّسْوَةِ المُسْتَرْجِلاتِ
الرَّاكِضاتِ وَراءَ لَذَّاتٍ عَديمَهْ..
خَلِّصيني مِنْ عَشائِرِكِ
ومِنْ عَساكِرِكِ
ومِنْ شِعاراتٍ لَئيمَهْ
هَزَّني شَوقُ الرُّجوعِ إلَيْكِ
يا أرضي الرَّحيمَهْ
فَغُرْبَتي.. صارَتْ كَسَحبِ اليانَصيبِ
وَصَيَّرَتْني، بَعْدَ إغْراءٍ، قَسيمَهْ!!
ـ8ـ
أغمَضتُ عَيْنَيَّ وَطِرْتُ في فضاءٍ
أزرقِ الحُلْمِ.. جَميلْ
فَتراءَتْ قِرْنَةٌ مَسْحورَةٌ
تَحْسُبُها الجَفْنَ الكَحيلْ
لِعُيونٍ.. زَيَّنَ الـلهُ بِها وَجْهَ أميرَهْ
لَم تَلِدْها امْرَأَةٌ،
وَلَمْ تَدُسْ أرضَ عَشيرَهْ
وَلَيْسَ مِنْ صِنْوٍ لَها أو مِنْ بَديلْ..
ثُمَّ بانَتْ تَحْتَها أودِيَّةُ الطُّهرِ العَميقَهْ
عُمْقَ الصَّلاةِ والقداسَةِ في معابِدِنا العَتيقَهْ..
عُمْقَ الأَصالَةِ في تعامُلِنا مَعَ النَّاسِ،
وفي عاداتِ أجدادي العريقَهْ.
إيهِ يا أرضي الغَريقَهْ..
لَيْسَتِ الأحلامُ ما أَبغي..
أنا التَّواقُ دَوماً للحقيقَهْ
ليسَتِ الأحلامُ ما أَبغي
وَإن كانت سلاماً..!!
يَقْلُبُ النّارَ زُهوراً
وَالخُطوطَ الحُمرَ أسوارَ حَديقَهْ!!
ـ9ـ
إنِّي أريدُكِ يا بلادي.. قُبَّرَهْ
عُمرُها عُمرُ الرَّبيعِ الضَّاحِكِ
فَوقَ الحقولِ المُزهِرَهْ
تَنقُرُ الحَبَّ،
وَتَبْني عُشَّها حَيْثُ تُريدُ..
تَحتَ كُلِّ شَجَرَه
لا تَخافُ من سُهولٍ
أو وِهادٍ
أو جِبالٍ مُقفَرَهْ
لا ولا قَصفَ الرِّياحِ في اللَّيالي المُمْطِرَه.
إنّي أريدُكِ ، يا بلادي ، قائداً مُتَقَدِّماً
كَيْ يُرجِعَ مَجْدَ العصورِ الغابِرَهْ
أو نَبِيّاً يَتَمشّى فَوقَ أمواجِ البحورِ الهادِرَهْ
يُطْعِمُ الجوعانَ خُبْزاً
يَصفَعُ الموتَ
ويَمحو عَنْ شِفاهِ الشَّعبِ إسمَ المَقْبَرَهْ
كُلُّ الدُّروبِ تَقَطَّعَتْ إلاَّ طَريقُ المَقْبَرَهْ!!
ـ10ـ
إنّي أريدُكِ يا بلادي،
رَغْمَ أنفِ الكونِ حُرَّهْ
تَشمَخينَ على الشُّموسِ
عَلى النُّجومِ
وَكُلِّ أقمارِ الْمَجَرَّهْ
وتَحلُمينَ..
أيا مُنى الأطفالِ في حِضنِ الأسِرَّهْ!!
إنّي أُريدُكِ مِهرَجاناً هازِجاً مُتَلأْلِئاً
لِيَكونَ للنَّاسِ مَسَرَّهْ
كوني كما أَبغيكِ يا أرْضي
لِكَيْ أسْقِيْ تَعيسَ الهَجْرِ مِنْ كَفَّيْكِ خَمرَهْ
إِنَّا يَئِسنا مِنَ الرَّحيلِ.. فَحسْبُكِ
أن تَجْمَعِي،
كَالأُمِّ،
شَمْلَ الشَّعبِ..
أُسْرَهْ!
**