مقدمة بقلم الدكتورة سمر العطار

ـ1ـ
لوحة ناقصة لمهاجر لبناني
تخيَّلتُ شربل البعيني، شاباً في العشرين من عمره يترك قريته مجدليا في شرقي طرابلس تحت جنح الليل متوجهاً نحو بيروت في ليلة باردة من ليالي كانون الأول عام 1971، وفي يده حقيبة سفر، وتحت إبطه علبة بيضاء فيها حذاء جديد لـم يلبس. كان يشعر بمزيج من الرهبة والفرح. لن يطوله أحد في آخر العالـم، فكَّر لبرهة، وأراد أن يضحك بصوت عال، لكنَّه ما أن تخيَّل خوري القرية وهو يطرق الباب على بيته ليلاً ويهمس شيئاً في أذن أمِّه حتى تملَّكه الخوف من جديد.."سيرمونه في البئر" قال الخوري محذّراً.
وعذَّبته أشباحُ مطارديه، لا لشيء، إلاّ لأنَّه لـم يفهم ماذا فعل. فهو لـم يقتل ولـم يسرق احداً.... "سد بوزك" قالوا في رسالة شفويَّة أرسلوها له مع الخوري.. هذا "البوز" اللعين لكم سبَّب له وللشعراء في بلاده متاعب لا أوَّل لها ولا آخر.
لماذا يموت وهو في ريعان شبابه؟. تساءل ألفَ مرَّة. لـم يكن قد أتمَّ البكالوريا بعد في مدينة طرابلس. وكان حلمه بأن يدرس الحقوق في الجامعة.. وبأن يصبح محامياً الى جانب كونه شاعراً. فالمحاماة والشعر كانا في نظره متقاربين: كلاهما يدافعان عن الانسان المغلوب، وكلاهما يهاجمان الظلم ويطالبان بالعدالة، تلك التي افتدها كثيراً في بلاده.
قبَّلته أمُّه على وجنتيه ألف مرَّة. توسَّلَت إليه بأن يهرب، بان يهاجر. أعادت على مسامعه ما قاله الخوري لها.. "لا فائدة يا ابني" شدَّدت على الحروف "لا فائدة.
وهرب مؤقتاً إلى ضيعة في الجبل.. لـم يرَ أحداً هناك، ولـم يتكلَّم مع أحد.. وتـذكَّر تلك الليلة التي أتى فيها الخوري الى أمِّه . لَكَم كانت نصراً أدبياً له . دعته حركة طلاّبيَّة في طرابلس لإلقاء الشعر .. (وكان قد نشر كتابين "مراهقة" وهو باللغة العاميَّة ، وآخـر "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة " باللغة الفصحى). وقبل الدعوة، وكشاب وسيم في العشرين، وقف أمام حشد كبير من مـحبِّي الأدب ومتعاطي السياســة، وألقى عـدَّة قصــائد بعنـوان "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط" هاجم فيها زعماء لبنان الإقطاعيين. وقوبلت القصائد، لا بالتصفيق فقط، وإنَّما بإطلاق الرصاص.. هذا الرصاص، الذي يطلقونه في لبنان إذا أحبُّوا أحداً أو كرهوه، إذا عبَّروا عن فرحهم أو غضبهم، وكأنَّهم يتسلُّون بدمية.. لـم يفكِّر كثيراً بهذا الأمر تلك الليلة. صحيح أنَّه ارتجف عندما سمع طلقات الرصاص. لكنَّ الفرح كان طاغياً عليه. لقد صار، هو القروي من مجدليّا، محطَّ الأنظار في عاصمة الشمال طرابلس، صار مشهوراً ولـم يتعدَّ العشرين.
لكنّ كلّ شيء تغيَّر عندما طرق الخوري على باب بيته ليلاً، وهمس في أذن أمّه.
ـ سَيَرمونه في البئر، ولن يعثر عليه أحد.
لَكَم بكت أمّه تلك الليلة.. لَكَم أَلحّت عليه بأن يهاجر إلى أستراليا، بأن يلحق بأخيه في سيدني. لا لَـم يعد هناك فائدة من البقاء في لبنان، قالت له، فلا شيء له قيمة.
في تلك الضَّيعة الجبليَّة، التي هرب إليها، ظلّ يفكِّر طويلاً بحياته وبمستقبله. ماذا يفعل الآن؟ وهل للإنتماء جدوى؟ كلّهم يؤمنون بحلول العنف: الّذين صفّقوا له، والّذين عادوه.
كان في بيته بنادق ومسدسات، ككلّ بيت قروي في لبنان. وكان أبوه يستخدم السّلاح في الصَّيد. لكنّه هو لـم يجرؤ بأن يلمس مسدّساً أو بندقيَّة. ولـم يكن يهمّه بأن يعيِّره الآخرون بالجبن أو بالخوف، فالحياة البشريّة، في عرفه، لا يمكن أن تقدَّر بثمن.
لـم يكن اتخاذ قرار بشأن الهجرة من لبنان بالشيء السَّهل. كان يودّ أن يبقى في بلده، أن يُتْرَكَ وحيداً في سلام. لكن أولئك الذين أحبّوه، وأولئك الذين كرهوه، أرسلوا له رسائل متضاربة. وشعر بأنهم لم يفكّروا به كإنسان. كان مجرَّد كرة بين أيديهم. أرادوا استغلال مواهبه أو خنقها. الّذين أحبّوه وضعوا اسمه في برنامج أمسية أدبيّة جديدة. وعندما رفض الإشتراك عيَّروه بالجبن، وقالوا له بأن ليس له مبدأ. والّذين كرهوه ظلّوا يرسلون له التهديد تلوَ التهديد.
وفكّر بأن يترك المدرسة في طرابلس إلى الأبد ، وأن يعمل في التّدريس الابتدائي. سيعيش منسيّاً في قرية ما، ولن يطارده الأحبّاء والأعداء. لكنّ الحصول، حتّى على وظيفة بسيطة في مدرسة ما، كان لا يتمّ إلاّ بتوصيّة من أحد زعماء المنطقة. ولأنّه لـم يشأ أن يهاجر من لبنان، فلقد حاول عبثاً أن يجد وظيفة في التعليم. وعندما قبلته مدرسة ما، قيل له بأنّه بحاجة إلى توصيَّة من زعيم. فذهب إلى أحدهم. ويبدو أن الزعيم قد فوجىء بسماعه للشاغر الموجود في المدرسة. كان من المفروض ـ في نظره ـ أن يعرف عن كل الشّواغر في منطقته!! ووعد الشّاعر بالمساعدة. ولكن في اليوم التّالي أُعطِيَت الوظيفة لأحد أزلام الزَّعيم.
لا مدرسة، ولا وظيفة، وأحبّاء وأعداء يطاردونه من كلّ جانب، والخوريّ يطرق الباب على أمّه ويقول لها بأنَّهم سيرمونه في البئر، وأمّه تقبّله ألف مرّة وتتوسّل إليه بأن يهرب. ماذا يفعل الآن هذا القروي من مِجْدَلَيَّا؟ لَكَم كان تعيساً لأنّه وُلِد في بلد إقطاعيٍّ، يحتلّ فيه الناس درجات معيّنة على السّلّم الإجتماعي. وأحلامه عن العدالة ، وعن دراسة القانون، لـم تكن إلاّ أحلاماً غَبِيَّة.
عندها فقط، بدأ يفكِّرُ جدّياً بأستراليا وبالرّحيل عن لبنان. وكانت أستراليا ـ على الأقل في أحلامه ـ بديلاً عن عالم الإقطاع والعنف.
وتقدَّم بطلب للهجرة ، وادَّعى بأنّه خيّاط. فأستراليا لـم تكن بحاجة إلاّ للعمّال المهرة. وكان أوّل سؤال سأله موظّف الهجرة الأسترالي أثناء المقابلة الّتي أجراها معه في بيروت.
ـ هل ستحارب في فيتنام إذا ما اضطرّت الحاجة؟
ولـم يتردد عندما أجاب بنعم. لا لأنّه كان يؤيّد الأمريكيين في حربهم القذرة، بل لأنّه كان يعرف أن الحرب موشكة على الإنتهاء، وبأن الفيتناميين سينتصرون في النهاية.
ـ ماذا تريد أن تفعل في أستراليا؟ سأله الموظّف بفضول.
ـ أريد أن أعمل وأن أبدأ حياة جديدة. قال له
ـ وإذا ما جمعت ثروة، هل ستعود بها إلى لبنان؟ سأله الموظَّف وهو يتصنّع الإبتسام.
ـ لا، لا، قال "الخيَّاط" المهاجر: سأبقى في أستراليا.. سأصرف ثروتي هناك.
كان أخوه في سيدني قد كتب له كلّ شيء، قد لقَّنه الأجوبة. هذا "البوز" اللعين لـم يكن حرّاً، لا في لبنان ولا في غير لبنان. على المرء أن يقول دائماً ما يحبّ الآخرون أن يسمعوه. لكنّه، مع ذلك، تخيَّل في تلك اللحظة أنّه صار غنيّاً وحرّاً.
في مطار بيروت، وقبل أن يتّجه إلى الطائرة، خلع حذاءه القديم أمام موظِّف الهجرة الأسترالي، وأخرج الحذاء الجديد من العلبــة البيضاء التي كان يحملها تحت إبطه. لبســـه بســرعة.. (وكذلك فعل مئات المهاجرين اللبنانيين) ولـم يسأل أحدٌ عن السبب، ولا ما حلّ بمئات الأحذية القديمة في مطار بيروت. هل كان هنـاك قانون أستـرالي يحتِّم على القادمين الجدد من بلاد العالـم، أو من بلاد معيَّنة فقط، بأن يتركوا أحذيتهم القديمة في بلادهم، حتّى لا ينقلوا جراثيم بعينها للعالـم الجديد؟
كان على عجلة. ولـم يشأ أن يستفسر عن شيء. أخوه كتب له منذ أشهر: "إشترِ حذاء ولا تلبسه حتّى يراك موظّف الهجرة الأسترالي في مطار بيروت." وسمع نفس القصّة من السّفارة الأستراليّة عندما تقدَّم بطلب للهجرة. كان يفكِّر بالثلاثين ساعة التي سيقضيها بين الجو والأرض، قبل أن يصل إلى سيدني. لَكَم اختار بلداً بعيداً عن العالـم! وانتابه الخوف فجأة.
وفي مطار سيدني بخّوه كما تُبَخُّ الحشرات. لـم يكن وحده في ذلك، بل بخّوا جميع المسافرين. وهكذا بدأت حياته الجديدة. كان عيد الميلاد على الأبواب. ولـم يكن قد رأى أخاه ولا عمّه المهاجرَيْنِ منذ زمن طويل. أقام بادىء الأمر عند أخيه. وكان قد تزوّج من أستراليّة ذات أصل لبناني، ورزق منها بطفلة. وخلال إقامته مع أسرة أخيه تعلّم الإنكليزيّة لمدّة ثَمانية أشهر، في مركز مخصص للمهاجرين، ووجد عملاً في معمل للحياكة DRI GLO في FIVE DOCK ـ سيدني. ولتسعة أشهر عمل من الثالثة بعد الظهر وحتى الحادية عشرة والنصف ليلاً. وابتدأت صورته كشاعر يقف أمام حشد من الناس تختفي تدريجيّاً من مخيّلته. وبالرغم من أنه كتب لمجلّة الدبّور اللبنانيّة، بادىء الأمر، شيئاً عن البلد الجديد الذي هاجر اليه، إلا أن وقته لـم يعد يسمح له بالكتابة الجادة. بالإضافة إلى أنّه وجد نفسه في مجتمع غريب، لا يتكلّم الناس فيه العربيّة ولا يفهمونها. ولـم يكن سعيداً في عمله. وذات يوم أوحت له زوجة أخيه الأستراليّة المولد بفكرة. كانت تستمع ليلاً نهاراً إلى أغنيّة واحدة لفيروز. وعندما سألها عن السّبب، قالت بأنّه لا يوجد غيرها في المدينة. كان في جيبه خمســون دولاراً فقط عنـدما ذهب إلى متجر WALTON في المدينة ، واشترى آلة صغيرة للتسجيل . ومن لبنان وصلته أغانٍ جديدة . فبدأ يسجّلها على أشرطة بطريقة بدائيّة، ويبيعها في الدكاكين العربيّة في منطقة CAMPSIE. ومن هذه البداية المتواضعة نمت شركته "صوت الأرز". ونتيجة لذلك صار المغتربون العرب، لا في أستراليا وحدها، بل في المهاجر الأخرى يستمعون إلى أحدث الأغاني اللبنانيّة.
ولكنّ الشاعر فيه لـم يكن سعيداً دائماً. فالشِّعرُ والتجارة لا يجتمعان، وان كانت التجارة قد علَّمته كيف يصبح ناشراً وموزِّعاً لكتبه فيما بعد في المهجر. وعندما اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان عام 1976، عاد للكتابة وأصدر ديوانه مجانين باللغة العاميّة. وأشرف هو بنفسه على تصوير الكتاب وبيعه في الدكاكين العربيّة التي تشتري أشرطته.
ولو لـم يكن متفائلاً لترك الكتابة إلى الأبد. لكنّه لـم يرَ نفسه كشبح دون ظلّّ في المنفى. كان يعرف أنّه يعيش على هامش المجتمع الأسترالي كمهاجر عربي، وبأنّه يكتب لفئة قليلة جداً من النَّاس، بعضها لا يعرف القراءة والكتابة . ومع ذلك فلقد صمَّم بأن يكتب بالعربيَّة. كان يريد أن يصل صوته من المهجر إلى لبنان، إلى أولئك الذين أطلقوا الرصاص فرحاً في طرابلس، عندما وقف أمامهم كشاب في العشرين، وإلى أولئك الذين توعَّدوه وحلفوا بأن يرموه في بئر القرية. ولـم يشأ أن يكتب لطائفة أو لفئة ما. لـم يشأ أن يؤيّد حزباً ضدَّ حزب. فالإنسان، في عرفه، هو فوق كل شيء: فوق الأديان وفوق الأحزاب.
وتتالت كتبه في المهجر. ودفع هو من جيبه حتّى تطبع على الآلة الكاتبة، ثمّ تُصَوَّر. إذ ليس في سيدني مطبعة عربيّة تصفّ الأحرف. وظلَّ يسوِّق كتبه ويوزِّعها على الدّكاكين العربيّة القليلة في سيدني وملبورن، حتّى أَلِفَ المغتربون اسمه، وصارت الجرائد العربيّة في أستراليا تكتب عنه، وتجري معه المقابلات.
ولـم يعد أحد يطارده في المنفى: لا الذين صفّقوا له في طرابلس، ولا الذين توعّدوا بأن يرموه في البئر. ولكنّ شبح البقاء: البقاء في بلد ليس ببلده، وبين أهل ليسوا بأهله، ظلَّ يتبعه ليل نهار. ولـم يخف هذه المرّة، بل صمد في مكانه مصمِّماً بأن يكتب حتّى ولو للأقليّة.
عندما زارني شربل البعيني مؤخّراً في بيتي، ضحكت معه طويلاً، وأنا لـم أعد أعرف كيف أضحك منذ زمن بعيد. وفي سرّي تعجّبت منه، وأحببتُ براءته الطفوليّة. كان يثرثر بخفّة وطلاقة عن أولئك الذين أرسلوا الخوري لأمّه. كنت أنا أرى أشباحهم السّوداء، وكأنّهم خارجون من توّهم للجحيم، بينما كان هو يرى فيهم دمى ملوّنة من مسرح العرائس، أو خيالات مضحكة على شاشة كراكوز. وضحكت تلك الليلة لضحكه. لكنّ رؤيتنا للأشياء كانت تختلف اختلافاً جذريّاً. كنت أنا أرى العالـم جحيماً لا يطاق، بينما كان هو يرى العالـم مكاناً مشرقاً يمكن أن يعيش فيه الأطفال.
عندما ودّعته وأغلقت الباب أحسست بأن شربل قد منحني بصيصاً من أمل.
6 آذار 1987
**ـ2ـالمرأة والحرب في المجتمع الأبوي
ملاحظات عن أعمال شربل بعيني

عندما رسم الشَّاعرُ العربي في الجاهليّة ـ باستثناء زهير بن أبي سلمى ـ صورة الحرب بين قبيلة وأخرى، لـم يكن غرضه، في ذلك، إظهار وحشيّة الحرب وأهوالها، ففكرة القتل لـم تروّع الإنسان الجاهــلي. ما روَّعه حقاً هو قتـل أقربائه، وأحبابه، وبني عشيرته. أمّا قتلُ الآخرين فلـم يكن إلاّ مدعاة للتفاخر. وقلَّما نجد وصفاً لإنسان يبكي على أخيه الإنسان. فامرؤ القيس رثى أجداده عندما تذكَّرَ ما فعله المنذر بن ماء السّماء بهم، والخنساء رثت أخويها، ودختنوس رثت أباها، وليلى الأخيليّة رثت حبيبها. ولـم يبكِ أحد لأجداد الآخرين، أو إخوتهم، أو آبائهم، أو أحبابهم. بل على العكس فإنّ بعض الشّعراء قد حضَّ على مزيد من القتل. فدختنوس إبنة لقيط بن زرارة سيد تميم، وقـد قتـله بنو عبس، حثَّت قبيلتها على الإنتقام، وقالت مخاطبة أعداء أبيها:
لنجزيكم بالقتلِ قتلاً مضعَّفا"1"
والخنساء ـ سيّدة الرثاء! كما ندعوها في شعرنا العربيّ ـ لا تبكي لإخوة الآخرين، بل لأخيها فقط. فهي لا تعتقد أن للآخرين أخاً يساوي أخاها. تقول:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسي
ولكنْ لا أزال أرى عجولاً
ونائحة تنوح ليومِ نحسِ
هما كلتاهما تبكي أخاها
عشِيَّةَ رزئِه أو غبّ أمسِ
وما يبكين مثل أخي ولكنْ
أسلّي النفس عنه بالتّأسّي.. "2"
وتأبّط شرّاً، الشّاعر الصعلوك، يجعل الضبع يضحك، والطَّيْر يشبع لكثرة القتلى من هذيل:
تضحك الضبع لقتلى هذيلاً
وترى الذّئب لها يستهلُّ
وعتاق الطّير تغدو بِطاناً
تتخطّاهم فما تستقلُّ "3"
لا، لـم يعترضْ أحدٌ على الحرب، ولـم يناقش أحد مفهوم الحرب. كان من الطّبيعي أيضاً أن يرثي الشّاعر أحبّاءه، وأن يفرح لمقتل أعدائه. ولـم يشذَّ عن هذه القاعدة سوى زهير بن أبي سلمى. كان صوته فريداً في جزيرة غارقة بالدّماء. فزهير الّذي عاش ثَمانين عاماً، أدرك بأنّ الحرب شيء مرعب، وبأنّ إهراق الدّماء لا يمكن أن يفيد أحداً. ولـم يبكِ زهير لفقد أبيه، أو أخيه، أو قريبه، بل بكى لغباوة الإنسان الذي يوقد نار الحرب، جالباً الضّرر على نفسه وعلى أبنائه
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم:
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم "4"
الحرب لا تلد إلاّ الحرب، وهي الرّحى التي تعرك الإنسان وتفنيه. والعاقل وحده هو الذي يؤمن بذلك. ولكن العاقلين نادرون، لا في زمن زهير فحسب، بل عبر التّاريخ الإنساني. ولقد مدح زهير أحد هؤلاء العقلاء "الحارث بن عوف" لأنّه أصلح بين عبس وذبيان، واحتمل ديّات القتلى في ماله، وكان من الأحرى بالشّاعر لو مدح بُهَيْسَةَ بنت أوس زوجة الحارث، والسـبب الرئيسي في إيقاف الحرب الدَّاميّة كما تقول لنا الروايات.
وإذا كان الشّعراء الآخرون في الجاهليّة ضيِّقي الأفق في محبَّتِهِم وتعاطفهم مع الإنسان كإنسان، فإنّ زهير لـم يكن أوسع أفقاً منهم بالرّغم من أنّه ندَّد بالحرب وأهوالها. فلقد خصَّ زهير الرجُلَ بمديحه، ونسيَ أو تناسى المرأة التي قالت له: أتفرغ [يا حارث بـن عـوف] لنكاح النّسـاء والعـرب تقتل بعضـها؟
وذلك في أيّام عبس وذُبْيان
فقال الحارث: فَيَكونُ ماذا؟
قالت: أخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم، ثم إرجع إلى أهلك فلن يفوتك! "5
وكانت بهيسة هذه قد قبلت الزواج مؤخّراً من الحارث، لكنّها رفضت أن تنام معه، وأن تمكِّنَه من روحها وجسدها قبل أن يفعل شيئاً لإيقاف الحرب بين عبس وذُبيان.
واليوم بعد أربعة عشر قرناً يأتي شربل البعيني، لا كناطق باسم قبيلة، كما يفعل الشّاعر الجاهليّ، بل كصوت متفرّد ليرسم لوحة مرعبة عن الحرب القبليّة في لبنان، وليبعث بهيسة حيّة في أذهاننا: بهيسة الّتي لـم يكتب عنها الشّعراء العرب، قدماء أم محدثون، بالرّغم من أنّها كانت مفتاح السّلام.
الحرب شيء مرعب عند البعيني، تماماً كما كانت عند زهير إبن أبي سلمى، وقتل الإنسان للإنسان لا يجلب إلاّ مزيداً من القتل، وليس هناك من فارق بين مقتل حبيب أو عدو، وليس هناك من داع لرثاء فلان، أو للتفاخر بقتل فلان. فالبعينـي رفض دور الشّاعر القبلي ـ ذاك الدّور الذي يفرض عليه أن يبكي لقتل أقربائه، وأحبابه، وبني عشيرته، وأن يفرح لقتل أعدائه ـ واختار أن يكون إنساناً يخدم مصالح الإنسان. ولقد دفعته رغبته بتغيير المفاهيم القبليّة التي تحضّ على الغزو والانتقام، إلى استخدام لهجة "القبائل" اللبنانية المتحاربة في وصف أهوال الحرب، وضرورة إيقافها. فاللهجة العاميّة قد تصيب الهدف أكثر من اللغة الكلاسيكيّة، وقد تنتشر انتشار النّار بين فئات المتقاتلين، ففيها ـ قبل كلّّ شيء ـ يتكلَّمون، وفيها يحبّون ويكرهون، وفيها يَقْتُلون ويُقْتَلون.
في قطعة بعنوان "يمين يسار" يؤكّد البعينـي على ضرورة إيقاف الحرب:
أنا ما بِفْهَمْ يَمِينْ
أنا ما بِفْهَمْ يَسَارْ
أنا بِفْهَمْ إِنو النّار
لازم تُوقَفْ مَهْما صَارْ "6"
ولكن أنّى للحرب اللبنانيّة أن تتوقّف والزّعماء ـ في عرف شربل البعينـي ـ يقدِّمون لها الوقود!
إذا أردنا أن نحلّل عالم البعينـي من خلال كتابه "مجانين" نرى أن لبنان يتشكّل ـ بعرف الشّاعر ـ من عشائر مختلفة، ولكن هذه العشائر لا تختار ما تريد، بل تختار ما يريد لها زعماؤها. فالإنسان عند البعينـي مسلوب الحرّيَّة والإرادة، ولكنّه أيضاً لا يفقه ما يجري حوله، ولا يدرك أن الزّعماء يقودون البلاد إلى الدّمار:
حلَّك بَقَى تفهم شو عم قِلَّكْ
بلادَك اختربِت من زعامِتْها
..........................
فِيق دَخْلَك فِيق من جهلَكْ
..........................
..........................
إنت وأنا.. يا نور عِينيّي
لازم نحارِب هالزّعامه كْتِيرْ
وِنْشك سَيْف حْقُوقْنا.. بْقَلْبَا "7"
والطّريف في الأمر أن عشائر البعيني وزعماءه كلّهم من الرّجـال، فهـم الذيـن يقتلـون النّســاء والأطفال، وهم الّذيــن "يخزّقون" وجه لبنان ويحرقونه. في قطعة بعنوان "المغول" يقول البعينـي.
بَسّْ
بَسّْ
هَيْدَا كذب مُشْ مَعْقُولْ
بِنْت قَتْلوها وْصَاروا
يِتْبَادْلُوا عْلَيْها الْمَغُولْ
...................
شِي بالعرض وْشِي بالطّولْ
وْشِي من تحت وشِي من فَوْقْ
وْشِي.. يَا أَللّـه كْفَرْنا بَسّْ
رِجْعُوا قَصُّوها بالنّصّْ "8"
هؤلاء الرّجال المغول هم نفسهم الّذين خطفوا الأطفال الصّغار في قطعة "مجانين":
.. وْكلّ ما انْخَطَف طفل زْغِيرْ
نِسْمَع وْنِقْرَا بَكّيرْ
بِـ بَلَد إسمو لبنان
عَم بيصير إجرام كْتِيرْ
جِهَّه .. قَتْلُوا إبن فْلانْ
والظّاهر زَعيم كْبيرْ
رجعوا تاني جِهَّه كْمانْ
رَبْطُوا ولَقْطُوا طفل زْغِيرْ
وْعَ كَعِبْ أحْلَى أرزِه
دَبْحُوه مِتْلِ الْعَنْزِه "9"
الرجل في عالـم البعيني مجنون وقاتل (باستثناء خالد كحول الجندي الّذي رفض أن يسلّم رفقاءه المسحيين للدوريّة المسلّحة الّـتي استوقفتهم وهم في طريقهم إلى مقر القيادة العسكريّة، وقال: نحن جنود لبنان. وليس بيننا مسلم أو مسيحي، فإذا أردتم قتلهم فاقتلونا جميعاً) "10". خالد كحّول هو صوت متفرّد كصوت الشّاعر في مجانين. أمّا الرّجال الآخرون الّذين نلقاهم فهم "دياب الشّعب" كما يسمّيهم البعينِي، ولقد صمّموا على أن يحرقوا كلّ شيء، وأن يقتلوا كلّ مَنْ يقف في طريقهم.
نستنتج من هذا كلّه، أنّ الشّاعر قد بدأ يشكّ بهذا النظام الأبـوي، الّـذي يجعل للرجل القاتل مكانة هامّة في الهرم الإنساني. فالمرأة، على ما يبدو، لـم تلعب أيّ دور فعّال في تربية هؤلاء الرّجال القتلة. ولـم يسألها البعيني عنهم شيئاً، بل سأل المسيح ومحمّد (وكلاهما رجلان) عن سبب تقصيرهما في خلق رجال أصحّاء العقول:
يا يسوع الْمَصْلُوب
وْيا رسُول المؤمنين
ما عْرِفتُوا ربَّيْتُوا شْعوب
عْرِفْتُوا ربَّيْتُوا مْجانينْ "11"
حتّى "اللـه" الّذي يكمّلُ صورة النّظام الأبوي في مجتمعنا لـم يبدُ رحيماً. صحيح أنّ شربل البعيني قد كتب في مقدّمة كتابه مجانين: "بؤْمِن بِأَللّـه.. وْعَيْب أَكِّد هَالإِيمان.." إلاّ أنّ صورته للّـه "المذَكّر" ذي الجزمة الّتي تسحق الإنسان الصرصور في كتابِه الغربة الطّويلة تطغى على كلِّ الصُّور. "12
ما هو البديل إذن لهذا النّظام الأبوي الّذي يرسمه لنا شربل البعيني؟ أللّـه في أعلى الهرم: كالأب الطّاغية، أو كالعسكري ذي الجزمة، أو كالعجوز ـ لايسمع شكوى، أو لا يهتم بشكوى، يليه المسيح ومحمّد ـ وكلاهما تحدَّثا للرجال بدرجات متفاوتة، لكنّهما فشلا في خلق عُقلاء. وبعد المسيح ومحمّد يأتي الزّعماء ورجال الدّين، ثمّ قطعان الماشية من الرجال الذين ينفّذون ما يؤمرون به. وفي أسفل الهرم تبدو النّساء المقتولات والمغتصبات إلى جانب الأطفال والعجّز.
من الواضح أن البعيني يريد أن يغيّر هذا النّظام الأبوي، لكنّه لا يثـور عليـه ثورة كاملة، فهو عنـدما يخاطب اللّـه فـي قطعـة "قلبي وطن" يقول بلهجة المحبّ:
لَيْش دخلَك لَيْش يا ربّي
تركت قلبي يولَع ويِسْودّ
وْغَيْرَك يا ربّي ما سَكَن قلبي
ولا يوم جرّحتو بْشَوك البغض "13"
ما يهم البعيني، ليس أولئك الّذين يحتلّون الدّرجات العُلْيا من الهرم في النّظام الأبوي، بل الرّجال الّذين ينصبون أنفسهم زعماء على بقيّة الرّجال. هؤلاء هم الّذين يحملون المسؤوليّة، مسؤوليّة دمار لبنان في عرف الشّاعر.
وبالرّغم من أنّ النّماذج النسويّة، الّتي ظهرت في كتابات البعيني، كانت بمعظمها إيجابيّة كصورة الأم "14"، والحبيبة البعيدة "15"، وفيروز التي يسمّيها الشّاعر "بنقطة الماء الوحيدة في غياهب الصّحراء " 16"، وتمينَة التي يعتبرها رمزاً لنساء لبنان في قطعته كيف أينعت السّنابل " 17"، إلاّ أَنَّ هذه النّماذج لـم تكُن تصلح لأن تلعب دور المنقذ، ولا أن تكون بديلاً للرّجال الّذين جلبوا الدّمار. ويبدو أن شربل البعيني قد سمع مؤخّراً ببًهَيْسَة، خلال محاضرة ألقاها كامل المرّ في سيدني عن المرأة العربيّة في الأدب والشّعر، فكتب قطعة بعنوان "صدّيقيني يا بهيسة"، جاعلاً من هذه المرأة، الّتي عاشت قبل الإسـلام، نـموذجاً حيّاً للمنقذة الّتي امتلكت مفاتيح السّلام بِيَدِها:
نَحنُ أفلسنا من الأبطال
من "عَوْف" الرّجال
...................
كيف تأتين إلينا مرَّتين
وتعيدين الوفاق مرّتين
وبطون العربيّات عَلِيلَه
والرّجولَة مِن نوادرنا القليلَه "18
مِـن هـذا نسـتنتج أنّ المرأة هي الأساس في عالـم شربل البعيني، فالحلّّ يكمن فيها. وقد تنجح في إيقاف الحرب الأهليّة إذا ما حاولت.
وفكرة امتناع بهيسة عن زوجها جنسيّاً حتّى يحقن دماء المتقاتلين من عبس وذُبيان، ليست بالفكرة الجديدة. فأَريستوفانيس، كاتب الكوميديا اليوناني، كتب مسرحيّة ساخرة بعنوان ليزيزتراتا Lysistrata في القرن الخامس قبل الميلاد، وجعل بطلتها ليزيزتراتا رمزاً للثّورة والتّنظيم النّسائي. تبدأ المسرحيّة بدعوة ليزيزتراتا النساء اليونيّات إلى عقد اجتماع طارىء، تعرض فيه عليهن الإمتناع كلّياً عن إقامة علاقات جنسيّة مع الرّجال، حتّى يقبل هؤلاء إيقاف الحرب، وإحلال السّلام. وبعد أخذ وردّّ تقبل النّسوة الإقتراح، ولكنّ بدون حماسة ظاهرة. ويضطرّ الرّجال في نهاية المسرحيّة، تحت ضغط التّجويع الجنسي، إلى توقيع اتفاقيّة سلام فيما بينهم. "19
وبالرّغم من الفروق الواضحة بين ليزيزتراتا اليونانيّة وبُهيسة العربية، ومن اختلاف طريقة عرض الشَّخصيّتين في مسرحيّة أرستوفانيس وقطعة البعيني "صدّّقيني يا بُهَيْسَة" (فبهيسة العربيّة هي نموذج أقرب إلى القداسة منه إلى السّخرية)، أقول بالرّغم من هذه الفروق الواضحة، إلاّ أن جهود المرأتين قد كلِّلتا بالنّجاح في نهاية المطاف. فليزيزتراتا تمكّنت بتنظيمها الثَّوري للنسوة من إيقاف الحرب الأهليّة في اليونان، وفرض السَّلام، بينما نجحت بُهَيْسَة بشكل غير مباشر في حقن دماء عبس وذبيان، وإنهاء حرب دامية بين القبيلتين المتحاربتين في الجزيرة العربية.
صـرخة شربل البعيني لبهيسة بأن تنبعث من قبرها من جديد، لَتأْكيـدٌ علـى أنّ المرأة هي أساس المجتمع في عرف الشّاعر، وتعبيرٌ ضمني على رغبته الملحَّة بأن يصبح النّموذج الجاهلي نموذجاً معاصراً حقيقيّاً.
**ملاحظاتـ1) نقل أبيات دختنوس محمود حسن أبو ناجي في كتابه الرثاء في الشّعر العربي: أو جراحات القلوب (بيروت
منشورات دار مكتبة الحياة، 1402 هـ)، ص 24 عن كتاب أيام العرب في الجاهليّة لمحمد جاد الملى وآخرين (بيروت: دار إحياء التراث العربي، دون تاريخ) ص 361
ـ2) نقلها محمود حسن أبو ناجي في كتابه الرثاء في الشعر العربي، ص 55 عن شاعرات العرب لعبد البديع صقر (دمشق: منشورات المكتب الإسلامي، دون تاريخ)، ص 104 ـ باعتقادي أن أبيات الخنساء المنقولة عن صقر أفضل من الأبيات الواردة في ديوان الخنساء (بيروت: دار صـادر 1963) ص ص 84-85
ـ3) نقلها محمود حسن أبو ناجي في كتابه الرثاء في الشعر العربي ص 46 عن حماسة أبي تمام دون أن يعطي معلومات عن محقّقها أو طبعتها.
ـ4) "معلّقة زهير بن أبي سلمى" في كتاب شرح المعلّقات السّبع، للإمام أبي عبد الـله الحسين بن الحسين الزوزني (القاهرة: مطبعة السَّعادة 1921) ص 86
ـ5) "نسب زهير وأخباره"، في الأغاني، الجزء العاشر، لأبي الفرج الأصفهاني (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصريّة 1938) ص ص 296 ـ 297
ـ6) شربل بعيني، مجانين، طبعة 2 (سيدني: دار الثَّقافة 1986) ص 94.
ـ7) "دياب الشّعب"، مجانين ، ص 16، ص 18
ـ8) مجانين، ص ص 44-54
ـ9) مجانين ، ص 39
ـ10) مجانين ، ص ص 58-88
ـ11) مجانين ، ص ص 39-40
ـ12) شربل بعيني، "جزمة أللـه "، الغربة الطّويلة (سيدني: دار الثَّقافة، 1985) ص ص 68-70.
ـ13) مجانين، ص 57
ـ14) راجع صورة الأم في "أمّي"، من خزانة شربل بعيني (سيدني: دار الثَّقافة، 1985) ص؟ دون ترقيم
ـ15) راجع صورة الحبيبة كملهمة في "ليش حبّيتِك" الغربة الطّويلة، ص ص 21-24، "وأعيديني إلى ذاتي"، من خزانة شربل بعيني ص؟ دون ترقيم
ـ16) "فيروز يا فيروز كوني أمّنا"، من خزانة شربل بعيني، ص؟ دون ترقيم
ـ17) "راجع ما قاله البعيني عن "تمينة" في مقابلة أجرتها معه جريدة "صوت المغترب" ، ونشرت فيما بعد في كتاب شربل بعيني بأقلامهم لكلارك بعيني (سيدني: دار الثّقافة 1987) ص 130
ـ18) الوفاق، العددان الخامس والسادس، حزيران وتمّوز، 1986، ص ص 63-73
ـ19) أريستوفانيس "ليزيزتراتا"، في إحدى عشرة مسرحيّة لكتّاب يونانيين (نيويورك : يونيفرسال لايبراري 1946)، ص ص 271-295
Aristophanes,"Lysistrata," in Eleven Plays of the Greek Dramatists (New York : The Universal Library ,Grosset & Dunlap , 1946 ), pp. 271-295
**